أتأسّى باللغةِ حينَ أقرَأ الأدبَ وأصغِي للقَصِيدة.

‏إظهار الرسائل ذات التسميات حين أقرأ. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات حين أقرأ. إظهار كافة الرسائل

السبت، 27 يناير 2018

رواية مزرعة الحيوان


نتيجة بحث الصور عن مزرعة الحيوان


قرأتُها متأخرًا ، وهذا التأخير جاء بحمولته من الإلمام بالقصة وأفكارها ومآلاتها ، ومع ذلك قرأتُها بلهفة القارئ العازم على الاشتباكِ مع كل كتاب بقراءته الخاصة.

ومما لا يخفى على القرّاء أنّ هذه الرواية كُتبت نقدًا وإسقاطًا للأنظمة الشمولية  على حياة الحيوانات في إحدى مزارع إنجلترا ، فاستطاع جورج أورويل بهذه الطريقة الذكية والرمزيات القوية أن يعبّر عن سخطه ورفضه للواقع الذي عايشه في فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية وبعض الوقائع وتداعياتها التي تنبأ بها.

ومن هُنا يتضح أنّ الكتابة فضلاً عن كونها أداة خلود وتعبير هي أداة مقاومة ومواجهة بيدِ الإنسان الكاتب.

تحدثت الرواية بشكلٍ ما عن الإنسان الذي يقع تحت قهرِ السلطة ، تحدثت عن إنسان الثورة والثمن الذي يحشده ، لتحقيق آماله التي تغدو ممكنة بقدر ما هي بعيدة ، تغدو خلاصًا بقدرٍ ما يبدو الواقع مأزقًا له جدرانه الضيقة.
هذا الإنسان الذي ينجو بالثورة ويقع تحت نكساتها في آنٍ واحد، إنسانٌ يفضّل التعلّق بأوهامِ الأمل البعيد على أن تضيق به جدرانه من جديد.

قدّمت الرواية أيضًا تصويرًا عميقًا لإنسان السلطة الذي يتغذى على شهوته فيها ، لتصغر أمامه الثورة ومقوّماتها والأمس واختناقاته ،  كل شيء يلزمه أن يصغر طالما أنّ سلطته تتمدد باستمرار، هذا الإنسان الذي يحافظ على تبعية إنسان الثورة بتغذية آماله في الغد الذي لا يجيء تارة وتارة أخرى بالقوة والقمع.
وهنا تكمن المفارقة ، فكيف لمن عانى من ممارسات الاستبداد أن يعمل على تكريسها بطريقة أو بأخرى.

" جميع الحيوانات متساوية ، لكنّ بعضها أكثر مساواة من غيرها "
اختصر جورج بهذه العبارة حتمية الفشل الذي تؤول إليه الأنظمة الشمولية والتي تحقق الاستبداد والطبقية والظلم بقدر ما تنادي بالمساواة.

قرأتُ الرواية بترجمة محمود عبد الغني ، وبرغم أني لا أملك تجارب كثيرة في قراءة الكتب المترجمة إلاّ أنها ترجمة لا تليق أبدًا برواية كهذه ، ومما أثار استيائي أنّ مقدمة المترجم تحتوي على نقدٍ لاذع لبعض الترجمات العربية المسيئة للرواية باختزال أفكارها وتغيير مسميات الشخصيات وغيره ومما كتبه المترجم بداية " إذ ماذا يبقى من سحر الكلمات إذا أسأنا إلى الكلمات " في حين أنّه قدّم إساءات لا تُغتفر إلى الكلمات في ترجمته ، فحال بيني وبين الاستمتاع الكامل باللغة.

التقت قراءتي لمزرعة الحيوان بقراءة سابقة لرواية سمراويت للروائي الارتري حجي جابر ، والذي دار في فلكِ مقارب حول الثورة الارترية التي لم تكتمل أحلامها وأهدافها حتى بعد مرور سنواتٍ طويلة من الاستقلال ، حيث لا زال الارتريون يتأرجحون بين آمالِ الثورة المعلقة وخيبات الواقع المكرّسة.

يتراءى لي أنّه طالما وُجد الإنسان يظلّ الخلاصُ حلمًا بعيدًا يحرّكه ، وفي غيابه يفقدُ الخلاصُ قيمته. 

الجمعة، 26 يناير 2018

رواية ثلاثية غرناطة


نتيجة بحث الصور عن ثلاثية غرناطة




بعضُ قصصِ التاريخ لا تُكتب احتفاء بما حققه المنتصرون ولا بكاءً وعويلاً على ما خلّفه المهزومون ، بعضُها تُكتب ليَنبتّ عقد الحكاية من المنتصف ، من اللحظة التي تلتقي فيها قدمُ الفلاحِ بالأرض التي لا يملك غير عمره حنطة لها ، فيبذرُ أكثره وإن حصد أقلّه.

وهذا ما أرادته رضوى لثلاثية غرناطة ( غرناطة ، مريمة ، الرحيل ).

لم تسلّم رضوى مآلاتِ الحكاية لأرض حربٍ ولا هزيمةِ معركة ، ولكنها وضعتها بين يديّ أبي جعفر الورّاق، وبدأتها من بيته وعلى تخوم وجعه حين أودت به فاجعة محارق الكتب التي افتعلها الأسبان ، فكانت جذوة النار التي أحرقت الكتب هي ذاتها التي أحرق الأسبان بها البشر مرة وأرواحهم مرات أخرى ،  جذوة النار التي لم تنطفئ أبدًا.

بدأت الحكاية من بيت أبي جعفر الورّاق عندما سلم أبو عبد الله محمد الصغير آخر ملوك الحمراء المسلمين مفاتيح غرناطة للملكين الكاثوليكيين الملك فرناندو والملكة إيزابيلا واستمرت على مدى ثلاثة أجيال ولكنها امتدت حتى شواطئ بلاد المغرب التي كان يرحّل إليها العرب عبر البحر أو يهربون فرارًا من المكان الذي ما عادوا  يعرفونه لا بأناسه ولا بلغته ولا معتنقه ، هكذا عالجت رضوى في روايتها عددًا من القضايا المضرمة في ضمير المجتمعات المحتلة.

كانت السطوة الأكبر في الرواية لكل مرسومٍ يصدره الأسبان ، يغتصبون معه حقًا جديدًا للعرب والمسلمين، مع كل مرسومٍ كانت تُقَضُّ مضاجع البعض بحثًا عن مخرجٍ يحفظ للأجيال القادمة حقها في دينها ولغتها وأرضها.

والبعض الآخر آثر السلامة بنفسه وعياله حتى وإن كلفته دينه وهويته.

والقلة التي تجد في نفسها رمقًا طويلاً تستطيع به الدفاع عن كلّ هذا ، تقرر أن يكون سرّها الحفاظ على دينها ولغتها بتمريرهما وتعليمهما للأجيالِ القادمة في بطون الكهوف أو تحت دهاليز البيوت المظلمة.

أفلحت رضوى في تصوير حياة الورّاق والفلاّح والنّجار والحدّاد والتاجر والفقيه والخادم بين صراعاتهم وهواجسهم كلٌ يبحث عن نجاته من استبداد المحتل وقسوته ، سواء كانت تلك النجاة إيمانًا بالنصر أو إيذانًا وتسليمًا بالرحيل أو دخولاُ تحت لواء التنصير.
هكذا نجحت رضوى في جذب جغرافيا الأندلس وتاريخها في ثلاثية فريدة ، لم يسبقها الولع بكتابة مشروعٍ ثقافيٍ تاريخيٍ ، ولا فضول التنقيب عن حقائق الفردوس المفقود ، تقول رضوى – رحمها الله – في إحدى محاضراتها :

"وأنا أتابع أخبار قصف العراق ، رأيت المرأة العارية تقترب وكأنني أبو جعفر الوراق في الرواية يشاهد في عريها موته  ، استبدّ بي الخوف وأنا أسأل : هل هو الموت الوشيك ؟ وإن كان فأي علاقة أديرها الآن مع موتي ؟ ومع السؤال داهمتني غرناطة فبدأت أقرأ. أعتقد أن رواية غرناطة بدأت في تلك اللحظة."

جاءت ثلاثية غرناطة  كواحدة من الروايات التي تردّ على مزاعم من يدّعي بأنّ
" الروايات لا تسمن ولا تغني من جوع "

 جاءت هذه الرواية لتفتح بابًا من أبواب الوقوف على التاريخ ، والتحريض على نبشه وفهمه، وحملت بين طيّاتها مرآة قادرة على وضع الإنسان في مكاشفة حرجة مع الذات ، مع الاعتوار الذي يعتريه أكثر من الاستقامة التي يدّعيها.

وعلى امتداد الحكاية حضرت في ذهني أبيات قصيدة " أندلسان " للشاعر محمد عبد الباري ، حضرت هذه المقاطع منها تحديدًا:

" يا أنتَ أندلسُ المكانِ قريبةٌ
مقدارَ ما القوسُ استعادَ سهاما "
" يا أنتَ أندلسُ الزمانِ بعيدةٌ جدًا
فكن لليائسين إمامًا "
" غرناطةٌ مالا يزار لأنها وقتٌ
وهذا الوقتُ صارَ حطاما "

ولم تكن لغة الحكاية أقلّ ثقلاً فقد حمّلتها رضوى مفرداتها الرصينة وتفصيلاتها الدقيقة وتشبيهاتها البديعة غير أنها أفرطت في التفصيل و التشبيه حدّ أن قلصت المساحة المتاحة للقارئ حتى ينسج في خياله حكاية غرناطته الخاصة.



الأربعاء، 24 يناير 2018

حمام الدّار قد يغيب



لا يُمكن لهذا النص أن يُقرأ قراءة واحدة إذ تكون قراءة مستطلعةً تحدد ملامح الصورة بكلياتها ، هذا النص كُتب ليُقرأ مرة ثانية ، مرة تستطيع من خلالها أن تُشير إلى مواضع الأشياء التي تعرّفتها. مرة تشي بأسرار غياب حمام الدار وتفكك فلسفته.

كتب السنعوسي هذه الرواية بلغة جيدة وذكاء بالغ راوح به بين شخصيتين كلّ منهما صانع الآخرِ ومصنوعه ، بعيدًا عن إطار الزمان وملامح المكان الواضحة استطاع أن يقدّم لنا قصّة غير موجعة برغم أنها تشاكس فينا معنى الفقد.

بدأت الرواية بمراوغة مأزق الكتابة ، حين تحضر الفكرة وتتمنّع في آنِ معًا ، بدأت وهي تشير بصباحاتها وأصابعها الخمسة إلى هاجسِ الدُّرجِ السفليّ وظلمتِه التي تبتلع كل الأعمال الغير تامة ، فكان الدُّرج السفلي هاجسًا لأبطال الرواية أيضًا، مما جعلهم يشاركون الكاتب في محاولاته لاستدراج نهايتهم. نهاية الفكرة والنص والأبطال.


أما أحجية ابن أزرق فقد تجلّت في واقع الشخصيتين
" عرزال ومنوال "

فقد كان عرزال كهلاً لم يعرف من ماضيِه غير أمسه ، وهي لحظة ميلاده على ورق كاتبه وصانعه ، باحثُا عن المعنى ، عن مسوّغات تشبثه بالحياة وعدوله عن الموت ، متعلقًا بعبثية لا يفهمها بالحمامة الأم فيروز على دكة نافذته وفرخيها زينة ورحّال ، ولا يميّز رتابة أيّامه غير دفتر مذكراته القابع على المنضدة بجانب سريره والذي يطل منه على الأمس الملتبس لديه والماضي الذي أراده له كاتبه برغم أنّه لم يعشه ولا يتذكره ، ماضٍ يربطه بأزرق والحمامة وفرخيها وبصيرة وتعويذتها التي يحملها القارئ معه على امتداد النص حتى يفهم حكاية " حمام الدار الذي لا يغيب وأفعاه التي لا تخون "

وحين يحضر منوال يبدو منطق حكاية عرزال أكثر وضوحًا
من حيث امتدادات القصتين واختلاف الأبطال وتجلياتُ الفقدِ والنهايات المعقودة ببداياتها ، في حضرة منوال ندرك أنّ حمام الدار حين يغيب قد لا يعود ، واحتمالاتُ العودة آمال يصيّرها الانتظار إلى أوهام، والأزرق الآخذ لا يستطيع المنح ، وفيروز أمّه التي لا يذكّر غير غنائها الذي يؤنسها و تواجهُ بهِ خوفها وتبرأ به من آمالِ انتظار الغائبين.


لم يكتمل النص ، ولم تحن النهاية ، فتحقق للكاتب ما كان يهجس به ابتداءً، آلت الحكاية إلى مصيرها إلى ظلمة الدُّرج السّفلي
هكذا ينهي السنعوسي الرواية.
  رواية حمام الدار " أحجية ابن أزرق "


وبهذا أنهي أول تجربة قرائية لي معه ، لأبدي إعجابي بذكائه في تصوير أفكاره وبتقنيته المتميزة في كتابة هذا النص ، وتركيزه على الشخصيات التي أخذت بيد الأحداث لينتجَ لنا سردًا متعدد التأويلات ومحرّضًا على إعادة القراءة .
 وقد كتب السنعوسي روايته بلغة سهلة لها إلماحاتها و حاولَ على امتداد النص أن يحافظ على سلامتها في حين وقع في عثراتٍ لغوية قليلة جدًا.





الأحد، 1 أكتوبر 2017

نسيان


أمامي الآن إبر الأنسولين الخاصة بجدتي المتوفاة قبل ثلاثة سنوات  - رحمها الله - والتي أحتفظ بصورتها في هاتفي النقال وسط العديد من الصور المتكاثرة بسرعة مخيفة  ويعزّ عليّ حذفها أيضًا ، وتقع عينيّ على دفتر الذكريات الملقى على الطاولة والذي أحتفظ فيه بالكثير من الصور والكلمات القريبة إلي ،  وفي بعض رفوف مكتبتي هدية من هذه وأخرى من تلك ، وفي أسفل خزانة ملابسي ثمة بعض العلب والأكياس التي تحفظ وجوه أصحابها، وفي أجزاء متفرقة من غرفتي أحتفظ بأشياء كثيرة مماثلة ، غرفتي ذاكرة ! ذاكرة عصيّة على النسيان إلى حدّ ما.
عندما انتقلنا مؤخرًا إلى المنزل الجديد ، كان على غرفتي أن تتخفف ، كان على الذاكرة أن تفيض قليلاً حتى يكون هناك متسعٌ للجديد والمزيد.
فنسيت غرفتي أو على وجه أدق أنسيتها !

على الأقل غرفتي الذاكرة مطواعة،  أقرر لها متى تتذكر ومتى تنسى ، بماذا تحتفظ وعن ماذا تنأى ،  وهذا تحديدًا ما أفشل بفعله مع ذاكرتي هي عصيّة أيضًا لكنها قصيّة لا تطالها يداي العابثة. وهذا أكثر ما يرهقني ويُعجبني في آنٍ واحد.
تُرهقني حين أكرر محاولاتي البائسة في اجتثاث الأوجاع وتجاوز الخيبات و التخلص من البقايا ، التخلص من المفقودين وبقاياهم ، أولئك الذين تقرر الحياة نسيانهم وأخرون يقررون نسياننا نحن .
لكنها وفي لحظة مخاتلة تنسى ، تقرر لي أن أنسى !

في تلك اللحظة التي تبدو مستعدة فيها للتجاوز والمُضي ، للتعثّر بوجوه جديدة والامتلاء بما لم تعتد عليه كرائحة عطرٍ يحفظ قداسة اللقاء الأول ، وصوتٌ أثيرٌ تُربكني حتى أشباهه ، وهكذا تكرر الذاكرة دورتها على الدوام ، وأقبل ذلك منها.
ماذا لو نسيت قبل أن يحين الوقتُ المناسب ؟ ماذا لو تجاوزت قبل أن أتعثّر بالشخص المناسب ؟ ماذا لو مضيتُ قبل أوانِ حدوث ما يُدهشني ويُعجبني وأحب ؟

ماذا سأفعلُ بذاك الخواء الذي سيتمدد فيّ ، وكيف لي أن أسكت صدى الفراغ المتبجح ، أريد أن أمتلئ وأريدُ أن أنسى كيفما شاءت ذاكرتي لي ، وأريدُ أن أتعثر كيفما شاءت لي أيضًأ ، المهم ألاّ أفرغ وألا أتذكر.
أريد لرائحة عطر عابر طريق لم يقصد نبش الذاكر ؛ أن تربكني.
أريدُ لوجهه إذا ما التفتُّ مدفوعة بالحنين إليهم ، أن يصيبني بدهشة لقاء أول أشباههم الأربعين.
وأريدُ أن أمضي في الحياة بعينين مفتوحتين على اتساعهما ، تبحثان عن أكثر مما رأيتُ وعرفتُ وأتذكر ، والنسيان وحدهُ يضمن لي حياة حية كهذه.

تنسى ذاكرتي أحيانًا الأشياء التي تعجبني وتدهشني وأحب وهي إذ تفعلُ ذلك ، تجعلني أخفّ ثقلاً لأنّي بالتأكيد لن أحتمل الصداع الذي يمكن أن يصيبني إذا ما تذكرتُ كل اللحظات الجميلة على مدى 21 عامًا أو أقلّ قليلاً، إذ تنسى ذاكرتي فهي تمنحني فرصًا لا معدودة من الدهشة المتكررة ،وهي إذ تفعلُ ذلك ، أقدّر لها صنيعها الذي يجعل العالم حولي غيرَ مألوف ، لأكون في حضرته الطفل الذي يعتمد على حواسه الخمس فيرى ويسمع ويلمس ويشم ويتذوق ليفهم الحياة حوله ، ذاك الطفلُ الذي يعبّر عن انتصارات فهمه البسيطة بالنسيان وتكرار المحاولات.


الجمعة، 8 سبتمبر 2017

إلى الأطفال الذين لا يفهمهم الكبار




أقول / تقول / يقول :
إلى طفل أوحد كنته وإلى أطفال كثر لم أكنهم.
إلينا نحن الذين نشابه بعضنا ولا نتشابه.

كم سخرت كتبُ والدي التي كانت في الرفوف العليا من المكتبة من قفزاتي المتكررة الآملة في الوصول إلى كتابٍ واحد ، حتى أقلب عابثة صفحاته ، أمزّق بعضها وأحاول سبر أغوار البعض الآخر ، حتى ألوك الكلمات الشهية وأتذوّق عصارة فكر أو عاطفة كاتبٍ ما أو أحاول بعجب في نفسي فكّ رموز الأسطر الماثلة الأمامي بأول الأحرف التي أتقنت لفظها " ب ب ، م م ، ت ت "
فأختزل كلّ الجهد المبذول لمؤلفِ ما بأحرفي البسيطة وأشعر بالانتصار.
ولكن يا للأسف كنتُ أقصر من أن أطال كلّ ذلك المجد وكان أبي أحرص من أن يفرّط بكنزه الخاص وكتبه الثمينة ويجعلها في متناولِ طفلِة مشاغبة مثلي لا تقدّر قيمة الكتاب وتحاولُ عبثَا فهم العالم حولها ببعض محاولاتٍ ساذجة.


أمّا أنتَ فقد كانت قصتك مختلفة لكنها مُحبطة هي الأخرى ، فعلى العكس مني ، كم حاولَ والداك أن يدسّا وجهك بين دفتيّ كتاب ، في كل فرصة تسنت لهما .
-         تريد أن تخلد إلى النوم ؟ اصطحب كتابًا معك وسيكون خير أهزوجة تغفو على إيقاعها.
-         مللتَ من مشاهدة التلفاز ؟ اقرأ كتابًا فهذا أنفع لكَ حتى تزداد ثقافتك وتتسع آفاق معرفتك وتُثري مخيلتك.
-         تُريد أن تلعب مع الرّفاق ؟ حسنًا ولكن انتهي من وردك اليوميّ في القراءة وستكون مكافأتك ، قضاء وقتٍ أطول  معهم.
-         - حان موعد الرحلة الأسبوعية للعائلة ؟ لا تنسى أن تأخذ كتابك حتى تستثمر وقتك إلى حين الوصول إلى الوجهة المحددة.
وهكذا تضيق أنفاسكّ كلما رأيتَ كتابًا ما ، فتختنق بتوجيهات الضرورة والوجوب والإلزام ،  وتضيع رغمًا عنك ، الحياة التي أردت أن تعيشها طفلاً ، طفلاً يُمارس الحياة دون أن يشعر بأنّ هناك ثمنٌ مقدمٌ أو موخرٌ يشق عليه ويجب دفعه.


مهلاً وأنتَ قبل أن تهرب دعنا نتحدّث قليلاً عن مأساتك ، أنت الذي تعتبر القراءة فعل مقاومة لكل عوارض الحياة ، تقاوم الملل بالقراءة ، تقاوم الحزن بالقراءة ، تقاوم العجز بالقراءة ، تقاوم الوحدة بالقراءة ، تقاوم الخوف بالقراءة ،  فالقراءة توفّر لك منافذ الهرب الممكنة من الحياة وإليها.
ثمّ تضطر لسماع تعليقاتٍ قاسية من الكبار ، من قبيل : أنت تُنهك نفسك بالقراءة  ، تضعف نظرك وتخفض مستويات صحتك ، وتقلّص دائرة علاقاتك الاجتماعية وتجنح للعزلة ، ويتراجع مستواك الدراسي. إذن عليك الآن أن تتوقف !
نعم تتوقف عن القراءة.
يصدرون قرارهم ويذهبون ، دون أن يتريثوا ليفهموا أنهم بهذا يصادرون حقك في المقاومة ، أنهم من ينهكك الآن فعلاً ويجرّدك من سلاح مقاومتك الوحيد.
فكيف ستقاوم مأساتك الآن ؟


إلى الكبار الذين لا يقدّرون محاولات طفلٍ يريد أن يقرأ أو يرفض ذلك
إليهم هم الذين يشابهون بعضهم ويتشابهون في قسوتهم حينما لا يفهمون المغزى وراء هذا المقطع لدانيال بناك من كتابه " متعة القراءة "
" لا يتحمّل فعل - قرأ – صيغة الأمر. وهو اشمئزاز تشاطره إيّاه عدّة أفعال أخرى ، كفعل " أَحَبَّ "  .... وفعل " حَلَمَ " طبعًا تبقى المحاولة ممكنة ، هيّا لنحاول
( أحبّنِي ، اِحلَم ، اقرَأ ) !"
ليكرر الكبار الذين أقصدهم ذلك المقطع أكثر من مرة ، حتى يشعروا تحديدًا بما تخلّفه قسوتهم على الأطفال حين يستخدمون فعل " القراءة " بصيغة الأمر ونهيه.

قساةٌ أنتم إذ تصادرون حقّ الأطفال حين تقفون عائقًا بينهم وبين كلّ ما يحاولون الوصول إليه ، حتى يلمسوه ويتحسسوه ، ويشتمّوه ، ويتذوقوه ، ككل شيء حولهم ، كالكتبِ مثلاً في محاولةِ ربما تكون ساذجة وعابثة لكنها بالتأكيد ستساعدهم في فهم جزءٍ من العالم وربما قد تؤسس لعلاقة وطيدة بينهم وبين المكتبة في يومٍ ما.

قساةٌ أنتم حين تحاولون جبرًا خلق علاقة ما بين الأطفال والكتب من باب الثقافة والمعرفة و دعاوى أخرى واهية لا يستطيعون فهمها ولا الإيمان بها وكل ما يعرفونه أنّها تقيّدهم وتختزل كل الحياة التي يتشوقون لخوضها بين دفتيّ كتابٍ هزيلٍ يقتطع من أعمارهم ، ولا يستوعب أحلامهم ، فإنّ لمّ تكن المتعة بمختلف ضروبها هي الباب الأوّل الذي يدلفون منه إلى القراءة وعالم الكتب ، فقد يكون عمر العلاقة التي تؤسسون لها قصير وقلما يثمر.

قساةٌ أنتم ، حين تحمّلون فعل القراءة أوزاركم ، فالأطفالُ الذين يتعاملون مع الكتاب كصديق يدفع عنهم كلّ مالا يطيقونه من عوارض الحياة ، منكم أنتم في بعض الأحيان ، يضعفون ، يتهاوون ويسقطون إذا ما جُرّدوا من سلاحهم الوحيد ، فهل تزيدون على أوزاركم وزرَ طفلٍ يحيا ليقرأ ، ويقرأ ليحيا.




السبت، 5 أغسطس 2017

أثقلُ من رضوى !


أنهيت رابع تجربة قرائية لي في رمضان بكتاب " أثقلُ من رضوى " سيرة ذاتية للروائية المصرية والأكاديمية رضوى عاشور – رحمها الله – زوجة الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي ، أعتقد عندما قلتُ مريد اتضحت العلاقة بين هذين الانتقائيين هذه القراءة والقراءة السابقة لي لرأيتُ رام الله ، نعم كانت أحد دوافعي لانتقاء الكتابين هو التعرّف على هذه العائلة المثقفة التي لكل فرد فيها باعٌ في الكتابة والأدب الأم والأب وابنهما بعد رؤيتي لمقطع على اليوتيوب يجمعهم جميعًا ، أخذتني خيالاتي حينها لرسم صورة جذّابة حول ثراء الحياة التي تعيشها عائلة كهذه ، ما أشهى لقاءاتهم وأمتع أحاديثهم وأوسع آفاقهم ، ما كمّ المتعة التي يستيقظون على إثرها كل صباح لبدء يوم لا يخلو من بصيرة حصيفة تتعاملُ مع الحياة بعمقٍ لا يتأتّى للمنشغلين بها عنها. كيف يخططون للعناية بمكتبتهم ورعايتها وهي تكبر وتنمو ، كيف يتناقشون حول نتاجهم الأدبي بطريقة نقدية يكمل فيها كل رأي ، الرأي الآخر ، كيف و كيف وكيف ؟
وبعد أن مررتُ بهاتين التجربتين ، بدت لي سذاجة الأوهام والخيالات التي نسجتها ، لأنّ ترفًا كالذي تخيلته لم يكن ليتمخض أبدًا عما قرأته في عاطفة مريد والتمسته في عقل رضوى وحياتها ، ترفٌ كهذا لن تنجب ابنًا كتميم قطعًا.
سيرة رضوى التي قرأتها في مؤلفها " أثقلُ من رضوى " عصفت بارتيابي حول السير الذاتية وكتّابها.
كثيرًا ما تسآلت ، أي نرجسية تلك التي يمتلكها شخصُ يرى أنّ حياته أهلٌ لصياغتها بين دفتيّ كتاب شخص يؤمن بأحقية أن يكون عمره ، عمرًا مضافًا إلى أصحاب المكتبات وعشّاق القراءة ؟ ما الاختلاف الذي عاشه وأعطاه كل هذه الثقة ؟ ماذا يريد أن يقدّم ويقول لي كقارئة ؟
رضوى أجابت عن أسئلتي ببراعة تامة وبددت كلّ هواجسي حتى أنّي أفكر ما السيرة التالية التي يمكن لي قراءتها .
كاتبُ السيرة شخصٌ أكثر تواضعًا من مزاعمي السابقة ، شخصٌ ارتأى أن سلاحه الوحيد لمواجهة مخاوفه وتحديد مواقفه و التعبير عن خوالجه وفهم تجاربه هو الكتابة ، لأنه لا يتقن حرفة غيرها تقدّم له كل هذه المزايا ، مزايا تجعل الحياة أخفّ وطأة ، وأكثر بساطة و وضوحًا وأشدّ عمقًا.
حدثتني رضوى عن مصر كما لم أعرفها من قبل ، عن مدنها وشوارعها ومبانيها وجامعاتها ، رأيتُ بوضوح تلك الجامعات التي تخرّج منها دكاترتي في الجامعة ، لأنّ مصر هي الدول العربية الأولى التي درست الخدمة الاجتماعية في معاهدها وكلياتها ، فاستعانت جامعتي ببعض أبنائها وبناتها.
حدثتني رضوى عن شباب مصر  الذين ينامون في الشوارع في ميدان التحرير تحديدًا ، الذين ارتوت أراضي مصر بدمائهم وهم يقومون بمظاهرة ما ، أو ثورة ما ، أو احتجاج ما ، الذين يحبون مصر حدّ أن يفدوها بأرواحهم لتهنأ الأجيال القادمة مما حرموا هم منه ، كانوا يثورون ثأرًا لأنفسهم وتاريخهم ومستقبلهم وأرضهم ، لحياة كاملة يؤمنون تمامًا أن كل مصري يستحقها حتى وإن لم يحظوا هم بها.
تحدثت عن شخصيات شابة كثيرة ، عرفتها وأحببتها وأكبرتُ فيها كل تلك الجرأة والغيرة والخلق والعلم.
تحدثت عنها هي الأكاديمية في جامعة عين شمس في القاهرة في قسم آداب اللغة الإنجليزية ، التي شغلت بعلمها وفضائلها العديد من المناصب ، ثمّ حرمت بعضها بسبب تمسكها بمادئها وقيمها في وسط المحسوبية وتقديم المصالح الشخصية على حق الله وعباده و الواجب ، تحدثت عن نفسها وهي تواجه مرضًا نادرًا لا يصاب به إلا شخص واحد بين كل عشرة آلاف ، وتتغلب مرات عديدة عليه بفضل الله ثم دعم الأحبة حولها ، وقفت كثيرًا عند عبارة قالتها : " من يجرؤ على الرحيل في وجود كلّ هؤلاء الأصدقاء ؟ لا أحدّق طويلاً في الأمر ، أغضّ الطرف ، لا أملك تسليم القياد إلى عاطفة تفتح الباب لهشاشة أجاهد في نفيها " أرى بسالتك وهشاشتك في وقتٍ واحد يا رضوى.
الآن أتحدّث أنا عن رضوى ،وأسأل أين كانت تلك المرأة في خضمّ هذه الحياة وجلبتها ، زوج فلسطيني تجبره ظروفه للغياب عنها ما يقارب ال17 عامًا فوجدت نفسها تتصدى لمهمة تربية ابنهما البالغ من العمر 5 شهور فقط في وطنٍ جرحه ينكأ باستمرار بأيدي أبنائه ، ومع مرضٍ كان قدرها أن تكون هي الشخص المصاب به من بين 10 آلاف شخص وفي وظيفة تجاهد لأن تكون أهلا لها بقيمها ومبادئها ، ثمّ وفاة أخيها الأكبر تتبعه أمها بعد عدة أسابيع ، بماذا كنتِ تشعرين مع كل هذا يا رضوى ؟
أفهم دموعكِ المنسابة التي كابدتِ مرارًا لحبسها ولكنها رغمًا عنكِ تنهمر في حضرة زوجك وابنك دون أن تعرفي سببها فيحاولان مدفوعان بخوفهما عليك تهدأتكِ وتجاوز الأمر. كان لكِ أن تبكي.

كان لابدّ لرضوى أن تكتب سيرتها سأعبر لها عن شكري بالدعاء لها ، فقد أكسبتني بعدًا وعمقًا جديدًا لفهم الإنسان ومعرفة مصر ، ، والأهم أيقنت أنه لو كان احتمال تشابه الحيوات بين كل الناس واردًا لكانت أيضًا هناك فسحة للاختلاف في طرح السيرة ، فسحة تتحدد بعمق البصيرة والنضج الإنساني في فهم التجربة ، ومشاعرٍ كل شخص في كل موقف أو حادثة.
أخيرًا  سألتُ  نفسي ما الذي آلمني أكثر ؟ هل انتهاك الإنسانية في وطنٍ على يد أعدائه أو انتهاكها في وطنٍ على يد أبنائه ؟ ما الموجع أكثر الجرح الذي يخلفه العدو ؟ أو ابن الوطن ؟

الجمعة، 21 يوليو 2017

السجن





كانت إحدى أهم وأمتع تجاربي الشخصية تجربة ذهابي إلى سجن النساء العام خلال الفصل الدراسي المنصرم لحضور حفل ختام أنشطة زميلاتي الأخصائيات الاجتماعيات المتدربات فيه ،  دخلتُ إليهِ وأنا مذهولةُ منه ، أتحسس المكان بفكري جيدًا ، أتمعن فيه وأحاول المقاربة بين الصور التي ارتسمت في مخيلتي  إثر قراءاتي في أدب السجون تارة وتارة أخرى إثر ما شاهدته في بعض المسلسلات التلفزيونية ، وأتسآل أي الصور أصدق وأكثر واقعية ؟ ما الفوارق ؟
بحثتُ عن الإنسان المسلوخ عن إنسانيته ، الإنسان الذي يُعامل كرقم ، زيادته بلاء ونقصانه خيرة ونعماء ، بحثتُ عنه هو المغتال في كرامته حدّ أنّ الترف الوحيد الذي يطاله هو الاعتراف بوجوده كرقمِ فقط ، هو ليس ابن أمه أو أبيه هو ليس ما كانه أو يكونه هو الرقم 1 أو 2 ، أو 3 حسب وقتِ وصوله إلى رحاب السجنِ.
بحثتُ أولاً عن قصة تشبه قصة عزيز الذي حكى عنه الطاهر بنجلّون في رواية تلك العتمة الباهرة أحد المعتقلين في سجن تزمامارت في صحراء المغرب البعيدة ، البعيدة.
قصة تشبه  قصته وقصص زملائه المعتقلين الذين كانوا يتساقطون واحدًا تلوَ الآخرِ من فرط الطعنات المتوالية على حقهم في الحياة ، بدءًا بالزنزانات الصغيرة التي يبلغ طولها 3 أمتار وعرضها مترٌ ونصف لها سقفٌ منخفض يتراوح ارتفاعه بين مثة وخمسين ومئة وستين سنتميترًا حيث لم يستطع عزيز حتى أن يقف فيه وفي أحد زوايا الزنزانة كانت حفرة التبوّل والتبرز – أكرمكم الله -  يقول عنها في الرواية "
كانت جزءًا من أجسادنا ، والأفضل أن نسارع إلى نسيان وجودها ، لكي نكف عن اشتمام روائح البراز والبول ، لكي نتوقف عن الشمّ إطلاقًا . ولكي نفعل لا ينبغي أن نسدّ أنوفنا . لا ، إطلاقًا بل ينبغي أن ندع أنوفنا مفتوحة ونتوقف عن الشم "
وفي مقطعٍ آخر " كان كل شيء محسوبًا بدقة ، إذ يحق لكلٍ منّا خمسة ليترات من الماء يوميًا.
من أوحى إليهم بهذا الرقم ؟ الأرجح أن أطباء قد أشاروا عليهم بذلك.وبأية حال ـ لم يكن الماء صالحًا للشربِ تمامًا. كنتُ أملك كرازًا من البلاستيك أسكب فيه الماء وأدعه يومًا كاملاً ليرسب وقد تجمعت في قعر الكراز طبقة من الوحل والقذارات.
توقفتُ أفكر في هذا المقطع محاولة استيعاب شناعة مكانٍ كهذا ، محاولة فهم سيكولوجية حرّاس المكان والقائمين عليه ، ففشلت.
وفي حين نقم عزيز على الظلام قائلاً في رواية تلك العتمة الباهرة " هناك أنماط للصمت في السجن وذكر منها الصمت الأشد قسوة والأشدّ وطأة ، كان صمتُ النور. صمتٌ نافذٌ ومتعدد.لحظات صمت النور ، غيابه المتمادي الذي لا ينتهي"
إذ يمجّد ظلام الليل في مكانٍ وزمانٍ مختلفين الدكتور أيمن العتّوم في تجربة سجنه التي حكاها في رواية ( يا صاحبيّ السجن) قائلاً " في الليل كنتُ أرى الأشياء بوضوحٍ أكثر، حرصتُ أن أعاين ذاتي في عتمة الليل؛ لأنها تتبدّى هناك جليّة بمراحل قياسًا على ما عداه... ، في الليل استعضتُ عن البصر بالبصيرة لأتلمس الدرب ، وحدها البصيرة لا تكذب ... فعندما تنظر بعيون القلب ترى الأشياء على حقيقتها "
أقفُ هنا أيضًا وأمعن في فهم العلاقة بين الليل والسجن والعزلة والصمت وبين هذا الاستجلاء والوضوح الكامل في الاستماع إلى الذات وفهمها ، أتذكر بعض اللحظات التي أمرّ فيها فأفكر مليًا بإمكانية الهرب إلى مكانٍ بعيد ، بعيدًا عن الناس وأصواتهم قريبًا جدًا مني في حضرة الصمت والعزلة.
ومع استحالة فكرة كهذه أقارب أكثر بين هذه الفكرة والحال التي أكون عليها في بعض أوقات عزلتي البسيطة ، فأفهمُ إلى أي مدى يمنحنا البعدُ عن الآخرين – حين تستوجب الضرورة أو نستجلبها – صفاءً نرى من خلاله أنفسنا بجلاء ونسمع صوتها الضائع في حضرة صخبهم بوضوح ، أفهم إلى مدى تمنحنا العزلة فرص الإصلاحِ والتشذيب لذواتنا وتطهير ما علق فيها من شوائب في غمرة وجودنا المستغرق مع الآخرين حولنا. أفهمُ أنّ السجين يمتلكِ ميزة يفتقدها الكثيرون ، فيكررون أخطاءهم ويقفون مكانهم ويجترون أفكارهم الباليّة بتكرار مشين.
خلال تجربتي في زيارة سجن النساء ، قدّر لي أن ألتقي بمجموعة من نزيلاته ، لم تفصل بيني وبينهنّ القيود والقضبان ، مشين أمامي ، وجلسن خلفي لحضور الحفل ، مررتُ بجانبِ إحداهن حين ذهبتُ لشرب الماء ، ابتسمت لي ، مدت إليّ كفها مصافحةً ، رددتُ الابتسامة ومددتُ كفّي.
حينها تأكدت لي قناعتي التي طالما فكرتُ فيها وناقشتُ أبي حولها فدافعتُ عن السجين كثيرًا ، دفاعًا لا يبرر فعلته ولا يسوّع جريمته ، دفاعًا يقرّ بإنسانيته فحسب. نعم يستحق العقاب وهذا حقّ الله ثمّ حقّ العباد.
لكنّه إنسان ، متأكدة أنه بذل ما في وسعه لئلاّ يصل إلى هنا ، حاول كثيرًا أن لا يتشوّه وألا يُدان.
لكن ضعفه أمام المال أو الانتقام أو أيًا ما كان ، هو ما ساقه إلى هنا ، لقد كان إنسانًا ضعيفًا طوّقته ظروف أهله أو أصحابه أو مجتمعه وإرادته كانت أضعف من أن تواجه وتقاوم.
وبالعقاب قد يتعلّم كيف يصبح أقوى ، وبإرادة أكثر مقاومة ، وممانعة ، هو إنسان معلول في نفسه والبعض في عقله وتفكيره، فالإنسان السليم المعافى لا يقدم على أيّ من ذلك ،وبنظري أنّ المعلول يستحق المساعدة ليشفى ويعود أفضل مما كان عليه.

أخيرًا لم يشبه السجن الذي زرته أيًا من تلك الصور لم يشبه سجن تلك العتمة الباهرة ولا سجن يا صاحبي السجن ، لكنه كان حقيقيًا و واقعيًا مثلهم ، وجدتُ فيه الإنسان المفجوع بنفسهِ أحيانًا والموجوع منها في أحايين أخرى ، وجدتُه هو الذي يمعن أخوه الإنسان في نكئ جرحه مرارًا وتكرارًا ، إن لم يكن داخل السجن ، فخارجه ، أينا يقدر أن يمنح السجين بعد خروجه من السجن فرصة ميلادٍ ثانية لولوجه إلى الحياة من جديد دون أن يقصيه عنها ؟ أينا يستطيع أن يمنحه فرصة أن يكون مرة أخرى ، جاره أو أخوه أو أبوه أو عمه أو خاله أو أمه أو ...   ؟ فرصة نقية خالصة لا تشوبها حتّى شائبة نظرات الريبة والإزدراء. في ماذا تفوقنا عليهم نحن الممتلؤون بالأخطاء الظاهر منها و الباطن ؟
في ماذا تفوّقنا عليهم إن كان البعض منهم أخطأ في حق العباد مرة ويخطئ البعض منّا في حقّ ربّ العباد مئات المرات ؟ بقدر صدق المرآة التي تعكس لنا عيوبنا وأخطاءنا دون تهوينٍ أو تأويل ، نكون أقدر على العفو والصفح والغفران ، هذا ما أعتقده.

أختم بلسان السجين المرحوم رفيق عزيز في تلك العتمة الباهرة الذي قال قبل وفاته في إحدى لحظات عبوديته الخالصة لله " أنا موجود لأصلّي لا لأُدين البشر "

الجمعة، 14 يوليو 2017

قراءة الإنسان






أبدأ بشكري للأستاذ عويّد السبيعي الذي استعنتُ مرة بمقطع له على " اليوتيوب " يتحدّث فيه عن تجربته مع  القراءة وكيف غيرت أفكاره وختمه بعبارة " القراءة أولاً ثمّ باقي تفاصيل الحياة " فعرضتُه على فتيات في المرحلة المتوسطة إثر برنامج آكام2 الذي قدمناه أنا وصديقاتي بهدف
"التوعية بمسارات بناء الحياة المتوازنة في مختلف المجالات بطرق عملية لاستغلال الطاقات وتوجيهها".
أشكره لأنّه جعل عبارة كالقراءة أولاً ثمّ باقي تفاصيل الحياة ،تعلق في ذهن فتاة في هذا السنّ لتسجلها بحماسة ضمن ورقة تقييم لقاء المجال الثقافي في آكام تحت بند " أهمّ المعارف التي اكتسبتها "
وعدتُ بذاكرتي إلى ما قبل الست إلى السبع سنواتٍ ، حين كنتُ بعمرهنّ ولم أكن أعرف عن القراءة سوى أنّها سمة المثقفين وكثيري الاطلاع هذا المعنى الجافّ، اليبس ،  الذي يحمل في طيّاته بعض الاستعلاء أو هكذا أشعر ، حتى أنني بسببه  اعتقدتُ حينها أنّ آخر ما يمكن أن أجيد فعله في حياتي هو القراءة ، فما حيلتي وأنا أنظر إلى كتاب من 150 صفحة وأفكّر من أين سأجد نفسًا طويلاً يساعدني على قراءة هذه الصفحات كلها ؟ ثمّ من أين لي بعقل مستنيرٍ يستوعبها كلها ؟ ثمّ من أين لي بوقتٍ يجعل من هذه العملية الثقيلة عادة ممتعة ومتنامية ؟ أعتقد أن تلك كانت أحد مخاوفي التي منعتني من ممارسة القراءة في سن مبكرة ، فلا توهنوا همم الأطفال الخصبة ، الطريّة بمثل هذه المعاني التي لن تثمر فيهم ولن تؤتي أكلها ، لا ترهقوهم بتلك العبارات الرنانة ذات القامات الشاهقة التي لن يفلحوا في الوصول إليها ، بل إنها تفوق حتّى أكثر أحلامهم عذوبة وعلوًا.
وبرغم أني بدأتُ القراءة بمعناها اليبس متأخرًا في بدايات المرحلة الثانوية طلبًا للثقافة وسعة الاطلاع، إلاّ أنّ القراءة انتصرت عليّ مؤخرًا حينما بثت نفسها فيّ بمعناها الحيّ ، عندما جعلتني أطرق أبواب المحاولات دأبًا ، فتارة أحاول قراءة نفسي وتارة أحاول قراءة الآخرين،  في الحقيقة كثيرًا ما حاولتُ قراءة الإنسان بتواطؤ ضمني بين تخصصي وفعل القراءة هذه العلاقة ذات الخيوط الوثيقة الرفيعة التي اكتشفتها أخيرًا، حيث صرتُ أبحث عن الإنسان خلف الوجوه والتجارب أبحث عن أسراره وأسبابه وحكاياه أبحث عنه عميقًا وبعيدًا ، أبعد من رمق نظره وأعمق من ملامح وجهه .
 لا أنكر أني تطلعتُ لمشابهة المرآة التي وصفها الأستاذ حجي جابر في روايته الأخيرة لُعبةُ المغزِل حين قال "لا أحد ينظر في المرآة لذاتها فالكل يبحث عن ذاته فيها ، عن صورته الصادقة.
لكن هل هذا أقصى ما تستطيعه المرآة ؟
ماذا لو كان بمقدورها أن تعرّي دواخلنا كما تفعل مع ملامحنا الظاهرة ؟ أن تكشف ما نخبئه تحت جلودنا ؟ ما نخبئه عن أنفسنا قبل الآخرين ؟ هل سيستمر تصالحنا المريح معها ؟"
وينتهي هنا ، لكن هناك تتمة لهذا المقطع طرقت رأسي كثيرًا فسجلتها على الهامش :
ماذا لو امتلكت المرآة القدرة على تقبلنا كما نحن والتماس الأعذار لنا دائمًا حتى بعد أن نفتضح أمامها ؟ ماذا لو كان بمقدورها أن لا تقع في فخاخ توقعاتها عنّا لتقولبنا وتنمذجنا كيفما شاءت وألا تحاسبنا على هذه التوقعات أو خيباتها فينا على إثرها ؟ هل سنمتلك خيارًا آخر غير التصالح معها عندئذ ؟
لا أعتقد.
فعلاً أغرتني هذه المرآة لمشابهتها ، ما أغراني أكثر أنها تمتلك كثيرًا من مقوّمات الأخصائي الاجتماعي
الذي يمثل مهنة الخدمة الاجتماعية وهذا هو التواطؤ الذي قصدته بين تخصصي وفعل القراءة ، هل هذا يعني أني إن كنت هذه المرآة التي تجيد فعل قراءة الإنسان على هذه الشاكلة فسأكون أخصائية اجتماعية جيّدة ولو إلى حدٍ ما ؟ نعم أعتقد.
فالبحث في الأسباب والحفاظ على الأسرار وتقبل الإنسان جملة وتفصيلاً هي مبادئ أساسية في تخصصي.
ثمّ ونحن نمارس فعل القراءة يتوهم من يظن أننا نتعامل مع نصوصٍ مجرّدة إننا أيضًا نتعامل مع الإنسان وأسراره وأسبابه وحكاياه لكنها مدسوسة ، تختبئ خلف بساط الكلمات وجذوع الجمل و العبارات ، وأيّما فاعلية تلك لمن يتقن لعبة الغميضة حين يقرأ ، ليكشف عنها.
يقول الأستاذ حجي جابر في روايته لُعبة المغزل مرة ثانية على لسان الجدة الحكواتية قائلة لحفيدتها"
" الحكايات لا تأتي من الخارج ، حتى لو كانت تخصّ آخرين وإننا حين نشعر بنضوبها ، يكون داخلنا هو الذي توقف عن رؤية الأشياء بطريقة مختلفة "
أعتقد أنّه اعترافُ ضمني من الكاتب بأنّ كل كتاب هو جزء من تجربة ما أو رؤية ما لكاتبه ، وبهذا الاعتراف أجد أنني مدفوعة لممارسة فعل القراءة بشغف وانتباهٍ أكبر ، بحثًا عن الإنسان وأسراره وحكاياه
هل أصبح التواطؤ بين القراءة وتخصصي صريحًا الآن ؟!
أخيرًا أهنئ الجميلة التي علقت في ورقة تقييم لقاء المجال الثقافي بعبارة "أشعر بعد هذا اللقاء أني بحاجة إلى زيادة وقت القراءة"  لأنها سبقتني في سنها باكتشاف سر القراءة كحاجة وضرورة.
أهنؤها ثانية لأني بما التمستُ منها من علاقة واعية بينها وبين القراءة أستطيع التنبؤ بأنها ستكتشف مبكرًا عندما تكبر قليلاً بأننا تجاوزنا مرحلة الحديث عن أهمية القراءة
وأنّ عليها حينئذ أن تجد الطريق الذي تجيب من خلاله عن سؤاليّ ماذا ستقرأ ؟ وكيف تقرأ ؟
لأنّ العمق الكامن خلف هذين السؤالين هو الذي يمنح فعل القراءة حيويته وفاعليّته.

وأنا اخترت قراءة الإنسان حيثما أجده. 

الخميس، 15 يونيو 2017

" ثورة الفكر على نفسه "








شهر مبارك علينا وعليكم وتقبل الله منّا ومنكم صالح النوايا والأعمال
يأتي رمضان كل عامٍ مزهوًا بتفاصيله ولقاءاتنا العائلية وعاداتنا فيه كلّ حسب أسرته وبيئه ومجتمعه ، فنجد في كل بيت قصة وعلى كل مائدة تفضيلٌ لوجبة وعلى الوجوه أنسٌ يحتفظ بأسرار الروحانية التي يبثها رمضان فينا.
وبشكلٍ شخصي أصنع لنفسي نظامًا خاصًا يسهل الالتزام به في ظلّ قلة الارتباطات الاجتماعية في رمضان ، نظامًا أخرج منه ببعض التحسينات والإصلاحات الذاتيّة بعد توفيق الله.
ومما أعمل عليه هو محاولة التعاطي مع فعل القراءة بوعيٍ وانتباهٍ أكثر يفوق ما يكون لي معه سواء أيام الدراسة أو في باقي أيّام الإجازة المتعددة في ارتباطاتها و واجباتها العائلية أو الاجتماعية  ، حيث تكون النفس في رمضان في حالة من حالات سكينتها والقلب في حالة من حالات انشراحه وطمأنينته والعقل في حالة من حالات هدوئه وراحته.
وعلى إثر ذلك يكون الفعل القرائي بالنسبة لي أكثر فاعليّة ، وقد بدأت إجازتي ورمضاني هذا العام بقراءة كتابٍ ممتع في مجال الثقافة والفكر وهو كتاب ( أوهام النخبة ، أو نقد المثقف ) لكاتبه الدكتور  علي حرب.
تناول الكتاب العديد من الأفكار والمحاور أذكر منها على سبيل المثال هنا :
فكرته الرئيسة القائمة على نقد دور المثقف الفاقد لفاعليته اليوم بكونه قائد دفّة التغيير وراسم أحلام المجتمعات للنهضة والتقدم لأنّه وصل لمرحلة من التنظير تعالى فيها عن الحقيقة و واقع المجتمعات الفعلي فتراجع دوره ولم تؤتي دعواه وشعاراته ثمارها المرجوة.
ويعزو هذه الحالة من انحسار الفاعلية أو عدم الوصول للنتائج والغايات المرجوة لمجموعة من الأوهام التي تملأ عقول المثقفين عن أنفسهم على نحوٍ جعلهم يظنون أنهم المنقذون المنتظرون الذين يقدمون أفكارًا وقراءاتِ يقينية للواقع غير قابلة للنقد أو الرفض أو التأويل ، بدعوى أنّهم نخبة المجتمع وطليعة الجماهير.
وهذه الأوهام هي خمسة أوهام كما ذكرها الدكتور علي حرب ( وهم النخبة ، وهم الحرية ، وهم الهوية ، وهم المطابقة ، وهم الحداثة ) ولا يسعني المجال هنا للتفصيل فيها حيث أني أذكر إجمال المضمون ، ويمكن الرجوع إلى مقالات الدكتور عبر الشبكة العنكبوتية أو إلى نفس الكتاب للاطلاع على تفصيلاتها.
وأنا هنا لم أوافق الكاتب ولم أعارضه في جملة ما ذكره بقدر ما اعتبرتُ هذه التجربة القرائية إحدى العتبات في سبيل الارتقاء بفهمي لرؤى المفكرين والمثقفين في فهمهم للأوضاع المجتمعية وقراءتهم لها وطريقة تعاملهم معها على مستوى أطروحاتهم ونتاجاتهم.
ومع ذلك يستحق هذا الكتاب إشادتي بثراء مضمونه ومنطق تحليله وتميّز منهجيّة طرحه ، حيث أن أكثر ما يهمني عند قراءتي في مجال الثقافة والفكر هو التقائي بكتبٍ تنير لي مناطق جديدة لم أتطرق إليها لا بتجربة قرائية أو حياتية سابقة  ولا بالتفكير أو التأمّل ، أو التقائي بكتبِ تقدّم لي منهجية تفكيرٍ مختلفة في تعاملي مع الأفكار والآخرين ومعطيات الحياة عمومًا.
وقد وجدت كلتيّ ضالتيّ في هذا الكتاب وخاصة منهجية التفكير التي دعا إليها تحت مفهوم نقد الذات أو الثورة الفكريّة ، حيث أننا كثيرًا ما نتعامل مع نقد الذات على مستوى نقاط قوتنا وضعفنا في مهاراتنا وإمكانياتنا فحسب ، فوجدتُ الدكتور علي هنا يؤكد على نقد الذات من منطلق الثورة الفكرية فيعبّر عنها بكونها ثورة الفكر على ذاته.
ويقول : الإنسان يغيّر أفكاره فيما هو يصنع العالم ، ويعدّل مقاصده فيما هو يسعى نحو أهدافه ، ويخرج على خططه فيما هو يعمل على تنفيذها. من هنا لا أفكار موضوعية مطابقة ولا نظريات تطبيقية جاهزة. ثمة شيء يختلف عن ذاته باستمرار ، باختلاف أنظمة العلاقات ومنظومة التواصل ، أو باختلاف المعالجات الفكريّة والممارسات الميدانية.
قرأتُ المقطع السابق تحديدًا بأكثر من وجه ، وجه أطللت منه على مقصوده فيما يتمّ معنى قضايا الكتاب وأفكاره و وجهٌ آخر أطلّ منه على حياتي وتجربتي الشخصية.
فأنا شخصية دائمة الثورة على أفكارها ولكني أسمّي هذه الحالة بالعادة " فوضى الأفكار " حيث أني بعد مرور فترات معينة في حياتي ومع تراكم المواقف والتجارب الحياتية واتساع نطاق علاقاتي أجد أني في حاجة ملحّة لأثور على بعض القناعات وأعيد تشكيل بنيتي الفكرية مع ثبات مبادئي وقيمي بالطبع ولكن في ذات الحين أحاول استيعاب التغيّر المستمر للظروف وللشخصيات والعلاقات والمواقف من حولي ، من خلال نقدي لتعاملي مع كلٍ منها بدءًا فيما أعتقده تجاهها مرورًا بما حدث فعلاً وانتهاءً فيما يجب أن تكون عليه شكل قناعاتي بعد هذه الثورة تأكيدًا أو تغييرًا أو تعديلاً و تهذيبًا ، والحقيقة أنّ هذه الفترة تعيث بسلامي مع نفسي فسادًا كثيرًا ، لكني أخرج منها بنضجٍ أكثر و وعيٍ أعمق وتقبلٍ أكبر لتلك الظروف واختلاف العلاقات وتنوّع الشخصيّات حولي ، مما يحسّن أدائي في تجاربي وتفاعلي مع علاقاتي استنادًا على ما ألحظه من نتائج فيما بعد.

وأخيرًا أقول أني خرجت من تجربتي القرائية لأوهام النخبة وأنا شبه مطمئنة إلى علاقتي النقدية مع ذاتي وثورة الأفكار التي تجتاحني من فترة إلى أخرى لأعلن فيها حاجتي إلى تجديد بعض مفاهيمي أو معالجة بعض قناعاتي ومنطلقاتي الفكريّة وكما أقول دائمًا أنّ كل تجربة مهما اختلف مجالها هي بالضرورة فرصة مواتية للنمو وها هي إحدى تجاربي القرائية تؤكد لي على ذلك.